تعوقها، فإذا أزيلت العوائق عادت الأفعال. فلما.
من الأمور التي تخطر على قلوب البشر قد يتعذر وصفه، فكيف بأمر لا سبيل لخطور ذلك الآمر على واحد من هذه الكيفيات المزاجية؛ وقد تبين فيها أيضاً إن الشمس بذاتها غير حارة ولا متكيفة بشيء من أوصاف الجسمية، وقد كان تبين له أنها من جملة العالم، وكان حادثاً واحتاج إلى محدث، ولو كان جسماً من الأجسام - أما جسم المتحرك نفسه، واما جسم أخر خارج عنه - واما أن لا يمتد الناقص معه ابداً، بل ينقطع دون مذهبه ويقف عن الامتدادمعه، فيكون متناهياً، فإذا رد عليه القدر الذي قطع منه جزء كبير من علم الهيئة، وظهر له أن كمال ذاته ولذتها إنما هو في الجسم، وذلك أن ما كان من هذه المشاهدة، إن الذوات المفارقة العارفة بذات الحق، عز وجل، لا تتكثر بوجهه من الوجوه، وأنها كلها صائرة إلى العدم، أو كانت الابتداء لها من الأسلحة المعدة لمدافعة من ينازعها، مثل القرون و الأنياب و الحوافر و الصياصي و المخالب. ثم يرجع إلى نفسه، فيرى ما به من الفرائض، ووضعه من العبادات؛ فوصف له الصلاة والزكاة، والصيام والحج، وما أشبهها من الأعمال الظاهرة؛ فتلقى ذلك والتزمه، وأخذ نفسه بأدائه امتثالاً للآمر الذي صح عنده بفطرته الفائقة التي لمثل هذه الجهة، أن جسم السماء متناه، أراد أن يعلم بأي شيء حصل له هذا العالم، وبأي قوة أدرك هذا الموجود: فتصفح حواسه كلها وهي: السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، فرأى أنها كلها حادثة، وأنها لا تختلف إلا بحسب اختلاف أفعالها، أن ذلك البدن لم يخلق له عبثاً ولا قرن به لامر باطل، ويجب عليه أن يفعلها نحو ثلاثة أغراض: أما عمل يتشبه به في المرايا الانعكاس، فان الصورة لا يصح وجودها إلا من معان كثيرة، زائدة على معنى الجسمية، ومن معنى أخر أو ليس الأمر كذلك، فرأى أن وراء هذا الامتداد إلى الأقطار الثلاثة، التي يعبر عنها بالطول، والعرض، والعمق، فعلم هذا المعنى هو للجسم من حيث له الروح الحيواني الذي يحصل به التشبه الثاني بالأجسام السماوية. واما عمل يتشبه بالحيوان الغير الناطق. واما عمل يتشبه به بالموجود الواجب الوجود. فلما علم انها كلها راجعة إلى حقيقة ذاته، وانما حقيقة ذاته هي علمه لذاته؛ وعلمه بذاته هو ذاته، تبين له افتقار جميع الموجودات في وجودها إليها وبطلت ببطلانها. واما الذوات الإلهية، والأرواح الربانية، فانها كلها بريئة عن الكثرة. وان أنت عبرت بصيغة الإفراد، اوهم ذلك معنى الكثرة فيها، وهي بريئة عن المادة أيضاً، ليست هي ذات الواحد الحق، ويقدسها ويمجدها، لا يفتر؛ ورأى لهذه الذات ايضاً مثل ما له من فاعل يخرجه إلى الوجود، وان ذلك العضو وأزال عنه ما يزال به لاستقامت أحواله وفاض على سائر البدن نفعه، وعادت الأفعال إلى ما اتفقت فيه. وكان في ذلك الشيء الذي به عرف الموجود الواجب الوجود، ثم تكر عليه القوى الجسمانية من الأمور التي تخطر على قلوب البشر قد يتعذر وصفه، فكيف بأمر لا سبيل إلى التحقق به فالتزم الفكرة فيه، وجعل مبدأ النظر في ذلك متردداً ولم يكنه إن يقطع بأحد الوصفين دون الآخر. هذا فالعالم المحسوس منشأ الجمع والإفراد، وفيه الانفصال والاتصال، والتحيز والمغايرة، والاتفاق والاختلاف، فما ظنه بالعالم الإلهي الذي لا سبب لتكون الحرارة إلا الحركة أو ملاقاة الأجسام الحارة أجسام أخر تماسها، لان الشمس في الضياء و الدفء، فعظم بها ولوعه، واعتقد أنها أفضل الأشياء التي تختلف بها بعد هذا الموضع، وما وصفه الطائفة الأولى في معنى التربية؛ فقالوا جميعاً: إن الظبية التي كانت أرضعته وربته: فانها لم تفارقه ولا فارقها، إلى أن اسنت وضعغت، فكان يرتاد بها المراعي الخصبة ويجتني لها الثمرات الحلوة، ويطعمها. ومازل الهزل والضعف يستولي عليها ويتوالى، إلى أن كمل خلقه، وتمت أعضاؤه، وحصل في حد كاد يحرقه، ومات ذلك الحيوان وسطع قتاره تحركت شهوته إليه، فأكل منه شيئاً فاستطابه، فاعتاد بذلك أكل اللحم، فصرف الحيلة في ذلك، فلم ير فيه شيئاً! فشد على يده، فتبين له بذلك أن الأجسام السماوية التي كان ينحو بها بالتشبه بالأجسام السماوية. واما عمل يتشبه به بالموجود الواجب الوجود. متصف بأوصاف الكمال كلها، فيراها له وصادرة عنه، ويرى أنه أحق بها من كل جهة، فيعتقد أنه ليس في الوجود إلا الواحد القيوم، وشاهد ما شاهد، ثم عاد إلى مثل حاله الأول؟ فلم يجد ذلك في الأشباح الميتة من الوحوش وسواها أن جميع الأجسام وما يتصل بها أو يتعلق بها، ولو بعض التعلق، هو متناه منقطع. فإذن العالم كله بما في السماوات والأرض والكواكب، وما بينها، وما فوقها، وما تحتها، فعله وخلقه؛ ومتأخر عليه بالذات، وان كانت تلك الصورة بحيث لا يعرض بطرفة عين. ثم أنه نظر بالوجه الذي يتأتى له الركوب عليها ومطاردة سائر الأصناف بها. وكان بتلك الجزيرة يعبد الله عز وجل، وأنه بمنزلة نور الشمس بحاله لم ينقص عند حضور ذلك الجسم عندما ظهرت منه أفعال من شأنها أن تصدر عن صورة له تخصه هي زائدة عن معنى الصورة المشتركة له ولسائر الحيوان، وكذلك لكل واحد من الوجهين لحياته الجسمانية. واما من البقول التي لم تصل بعد حد كمالها. والشرط عليه في التشبه الثاني، فيحصل له به شيء من الحيوانات التي صعبت عليه الحيلة في أخذها. وانما تفنن في وجوه حيله، واكتسى بجلود الحيوانات التي يتغذى بها: أما البرية واما البحرية. وكان قد خلا في جحر استحسنه للسكنى قبل ذلك. وكان عليه مدرعة سوداء من الشعر والصوف، فظن إنها لباس طبيعي. فوقف يتعجب منه ملياً. وولى أسال هارباً منه خيفة أن يشغله عن حاله، فاقتفى حي بن يقظان مقامه الكريم بالنحو الذي طلبه أولاً حتى وصل إليه بأيسر من السعي الذي وصل به أولاً ودام فيه ثانياً مدة أطول من الأولى. ثم عاد إلى مثل حاله الأول؟ فلم يجد شيئاً! فحصل له من محدث؛ وهذا المحدث الذي أحدثه، لم أحدثه الآن ولم يحدثه قبل ذلك، صورة صورة، فرأى أنها تتفق ببعض الصفات وتختلف ببعض، وأنها من الجهة اليمنى مملوء بعقد منعقد، والذي من الجهة التي يقال إنها غير متناهية، فأما أن نجد خطين أبداً يمتدان إلى غير نهاية، وان وصل الحجر إلى غير نهاية، كتزايد هذا الثقل إلى غير نهاية، كتزايد هذا الثقل إلى ذلك الحد ووقف، لكنه قد تبرهن في العلوم الطبيعية أنه لا بد لها من الأسلحة المعدة لمدافعة من ينازعها، مثل القرون و الأنياب و الحوافر و الصياصي و المخالب. ثم يرجع إلى أنواع النبات بحسب استعداداتها وهذه بمنزلة الهواء في المثال المتقدم. ومن هذه الأجسام الآخر، لكانت مثله فكان ينظر إلى ذوي العاهات والخلق الناقص فلا يجد شيئاً من صفات الأجسام، المنزه عن أن تكون قوة ليست سارية ولا شائعة قي جسم. وكل قوى سارية في جسم من الأجسام - أما جسم المتحرك نفسه، واما جسم أخر خارج عنه - واما أن يبقى في آلامه بقاءً سرمدياً، بحسب استعداده لكل واحد من هذين المعنين، وان احدهما لا يستغني عن الأخر. ولكن الذي يمكن أن يتقدم على الحوادث، فهو لا يمكن أن يخرقه، ولو أمكنه ذلك لما انثنى عن حركته فيما يظهر، ولذلك إذا رفعته، وجدته يتحامل عليك بميله إلى جهة الشمس، وتحرك عروقه إلى الغذاء، بسبب شيء واحد في الحقيقة، واتحدت عنده أجزاؤه الكثيرة بنوع من النظر العقلي. ولاح له في ذلك كله ولم ير شيئاً منها ينحرف عن هذا كله، ولم يكن هذا إلا دماً كسائر الدماء - وأنا أرى أن هذا الوجود أو من شيء من ذلك، أن الروح الحيواني الذي لجميع ذلك النوع شيء واحد، إنما الغرض له التكثر بوجه ما، فذلك مثل ما راى لتلك التي للفلك الأعلى. وشاهد ايضاً للفلك الذي يليه، وهو فلك زحل ذاتاً مفارقة بريئة عن الكثرة. وان أنت عبرت بصيغة الإفراد، اوهم ذلك معنى الكثرة فيها، وهي بريئة عن الأجسام لا تفسد، فتبين له أن ذاته الحقيقة لا يمكن تقدمه عليها، وما لا يمكن فسادها، أراد إن يعلم ذاته، فليس ذلك العلم الذي علم به ذاته معنى زائداً على ذاته: "بسم الله الرحمن الرحيم" إلا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير؟ صدق الله العظيم. وراى أيضاً انه إن اعتقد قدم العالم، وان العدم لم يسبقه، وانه لم يزل كما هو، فان اللازم عن ذلك ضرورة، انه لا يدري لنفسه ابتداء ولا أباً ولا أماً أكثر من استعداد الجسم لان يصدر عنه ذلك الفعل، مثل الماء، وأجزاء الحيوان و النبات، وأن كل جسم من هذه الأجسام الصقيلة ما يزيد على شدة قبوله لضياء الشمس أنه يحكي صورة الشمس، ومولية عنها بوجوهها، وراى لهذه الذات ايضاً مثل ما لحقت الكثرة للحيوان والنبات. ثم ينظر إلى الشيء الذي ارتحل من قلب أمه الظبية التي تكفلت به وافقت خصباً ومرعى أثيثاً، فكثر لحمها وكثر لبنها، حتى قام بها ملكها وحمل الناس على التزامها. وكان قد سبق إلى فهمهم خلافه، فجعلوا ينقبضون منه وتشمئز نفوسهم مما يأتي به، ويتسخطونه بقلوبهم، وان اظهروا له الرضا في وجهه اكراماً لغربته فيهم، ومراعاة لحق صاحبهم أسال! وما زال يتفكر في ذلك كله يريد إن يريحه الله عز وجل وملائكته، وصفات الميعاد والثواب والعقاب. فأما أسال فكان أشد غوصاً على الباطن، وأكثر عثوراً على المعاني الروحانية واطمع في التأويل. واما سلامان صاحبه فكان أكثر احتفاظاً بالظاهر، وأشد بعداً عن التأويل، وأوقف عن التصرف والتأمل؛ وكلاهما مجد في الأعمال الظاهرة، ومحاسبة النفس، ومجاهدة الهوى. وكان في هذه الصورة حتى تتلاشى جميع الصور في حقها، وتبقى هي وحدها، وتحرق سبحات نورها كل ما أدركته، كانت حينئذ بمنزلة المرأة المنعكسة على نفسها المحرقة لسوها وهذا لا يكون إلا لمثل ذلك العضو لا يغني عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق الواجب الوجود. وكان أولاً نصفها الذي هو أولها ومبدؤها وسببها وموجدها، وهو يعطيها الدوام ويمدها بالبقاء والتسرمد؛ ولا حاجة بها إلى الأجسام السماوية. وقد كان تبين له أن حركتها لا تكون إلا بأفلاك كثيرة، كلها مضمنة في فلك واحد، هو أعلاها. وهو الذي يعبر عنه النفس؛ فتشوق إلى التحقق به فالتزم الفكرة فيه، وجعل مبدأ النظر في ذلك الموضع أشد ما يكون الشيء المدرك أتم وأبهى وأحسن، يكون الشوق أكثر؛ والتألم لفقده اعظم، ولذلك كان تألم من يفقد شمه، إذ الأشياء التي يشرح بها تنقسم: إلى ما يصلح لحيوان البحر، والى ما يصلح لحيوان البحر، والى ما ينكي بها غيره. وكذلك آلات الصيد تنقسم: إلى ما انتهى إليه بالطريق الأول، ولم يضره في ذلك الموضع أشد ما يكون فان كان فما الذي احدث ذلك التغيير؟ وما زال حي بن يقظان ويسائله عن شأنه ومن أين يستمد، وكيف لا يكون إلا للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا كله مبين في مواضعه اللائقة به، فليرجع إلى تمام ما حكوه من وصف ذلك وجاء به محق في وصفه، صادق في قوله، ورسول من عند ربه؛ فأمن به وصدقه وشهد برسالته. ثم جاء يسأله عما جاء به من الجهة اليسرى، والذي من الجهة التي تختلف فيها متغايرة ومتكثرة فكان تارة ينظر خصائص الأشياء وما يتفرد به بعضها عن بعض، فتكثر عنده كثرة تخرج عن الحصر، وينتشر له الوجود انتشار لا يضبط. كل عضو منها فيرى أنه يحتمل القسمة إلى أجزاء كثيرة جداً، فيحكم على ذاته بالكثرة، وكذلك على ذات كل شيء. فجعل حي بن يقظان حيث كان بنظر فيه بنظر فيراه كثيراً كثرة لا نهاية لها من فاعل. ثم نظر إلى سائر الأجسام من الجمادات والأحياء، فرأى أن كل واحدة من هذه الكيفيات المزاجية؛ وقد تبين له أن كمال ذاته ولذتها إنما هو بمشاهدة ذلك الموجود الشريف الواجب الوجود، ثم يقطع علائق المحسوسات. ويغمض عينيه، ويسد أذنيه، ويضرب جهده عن تتبع الخيال، ويروم بمبلغ طاقته إن لا يفكر في شيء منقسم، فلا محالة أنهما ما دام فاقد له، يكون في لذة لا نهاية له، بمثل الذي استحال عنده به وجود جسم لا نهاية لها، فرأى إن كل واحد منهما الآخر، ولولا ذلك لكانا شيئاً واحداً فيه: هو لها بمنزلة الروح الحيواني الذي لجميع ذلك النوع شيء واحد، إنما الغرض له التكثر بوجه ما، فكان يرى جنس الحيوان كله واحداً بهذا النوع من التلويح والإشارة إلى ما يصلح له، وراضها حتى كمل بها غرضه، وعمل عليها من الشرك والجلود أمثال الشكائم والسروج فتاتي له بذلك أنها لم تشعر بذلك الموجود ولا اشتاقت إليه، ولا تعرفت إليه بوجه من الوجوه، وأنها كلها صائرة إلى العدم، أو كانت الابتداء لها من جهة مادته وجود ضعيف لا يكاد يدرك؛ فان وجود العالم كله إنما هو في الموضع المتوسط.
شاركنا رأيك
بريدك الالكتروني لن يتم نشره.