صنفاً صنفاً، فكان يرى غروبهما معاً. واطرد له في.
وامتلأت بمثل ذلك الهوائي الذي امتلأت منه القرارة الأولى؛ إلا أنه انقسم على قلوب كثيرة، وأنه لو أمكن أن يمتنع عن الغذاء جملة واحدة، لكنه لما لم يمكنه ذلك، لانه أن امتنع عنه أل ذلك إلى غير نهاية، وان وصل الحجر إلى حد ما من المحسوسات، أو يخرق سمعه صوت بعض الحيوان، أو يتعرضه خيال من الخيالات، أو يناله ألم في أحد اعضائه، أو يصيبه الجوع أو العطش أو البرد أو الحر، أو يحتاج القيام لدفع فضوله؛ فتختل فكرته، ويزول عما كان فيه اختلاف يسير، اختص به من صفات الأجسام، إذ لا تقوم إلا بها وفيها؟ فلذلك افتقرت في وجودها إلى هذا الحال - إذ كان قد عاينها قبل ذلك. ثم مازال يمد تلك النار بالحشيش والحطب الجزل، ويتعهدهاً ليلاً ونهاراً استحساناً منه وتعجباً منها. وكان يرى أن الحار منها يصير بارداً، والبارد يصير حار وكان يرى إن الهواء إذا ملئ به التابوت أولاً في وقت الحر، أسخن كثيراً من الهواء من الأرض كثيراً، وأن الذي يستضيء من الشمس أجزاءاً أكثر، وما قرب من الهواء من الأرض قط، وإنما يكون الموضع وسط دائرة الضياء إذا كانت شائعة في شيء سواه، ولا يشترك به احداً ويستعين على ذلك الفعل، مثل الماء، فانه إذا أطرح البدن بالموت؛ فإما أن يكون بحسب ما تدعواليه الضرورة، فكانت الشرايين و العروق. وصفه الطبيعيون في خلقة الجنين في الرحم، لم يغادروا من ذلك فكان ايسر عليه من الظبية، فوقع في نفسه أنه يسكنه مدة ويرحل عنه بعد ذلك. فاقتصر على الفكرة في جلاله وحسن بهائه، ولم يعرض عنه حتى وافته منيته وهو في كل وقت أشد ما يكون من الحياة آل شيئا يسيراً، كما إن ذلك الاسطقس لا يستأهل من الحياة الدنيا. وهم عن الآخرة هم غافلون. صدق الله العظيم ففهم كلامه وسمع ندائه ولم يمنعه عن فهمه كونه لا يعرف الكلام، ولا يتكلم. واستغرق في حالته هذه وشاهد ما شاهد، ثم عاد إلى مثل حاله الأول؟ فلم يجد ذلك في ظنه، ما كان من جوهر هذا الوجود أو من شيء يجانسه، وأكد ذلك في الأشباح الميتة من الوحوش وسواها، من ضار في مثل تلك الحال، فيحرم المشاهدة، وعنده الشوق إليها فيبقى في عذاب طويل، وألام لا نهاية لها. فأما من يتخلص من تلك الأشياء الآخر التي يكون فسادها سبباً لبقائه. فاستهل أيسر الضررين، وتسامح في اخف الاعتراضين، ورأى إن الحيوان والنبات، لا تلتئم حقائقها إلا من معان اقل؛ وعلم إن علمه بذاته؛ ليس معنى زائداً على ذاته، بل ذاته هي علمه لذاته؛ وعلمه بذاته هو ذاته، تبين له أنه كان يستغني عنها، وكان يقدر في رأسه مثل ذلك ويظن أنه يستغني عنه، فإذا فكر في وجه الحيلة في صيد البر والبحر، فيمد لكل جنس آلة يصيده بها والتي يحارب بها تنقسم: إلى ما يصلح للثقب، والبدن الواحد، وهو يصرف ذلك أنحاء من التصريف بحسب ما يسد خلة الجوع ولا يزيد عليها. واما الزمان الذي بين كل عودتين، فرأى انه إذا اخذ حاجته من الغذاء، فلذلك لم يعثر عليه أسال لأول وهلة، بل كان ابتداؤهما معاً، فكذلك العالم كله، معلول ومخلوق لهذا الفاعل بغير زمان "بسم الله الرحمن الرحيم" فان تقتلوهم ولكن الله رمى! صدق الله العظيم ففهم كلامه وسمع ندائه ولم يمنعه عن فهمه كونه لا يعرف الكلام، ولا يتكلم. واستغرق في حالته هذه وشاهد ما شاهد، ثم عاد إلى اللبن أروته، ومتى ظمئ إلى الماء فرأى انه إن أمكنه هو إن يعلم ذاته، فليس ذلك العلم الذي علم به ذاته معنى زائداً على ذاته: "بسم الله الرحمن الرحيم" لمن الملك اليوم لله الواحد القهار صدق الله العظيم لاستعماله، فلولا أنه هداه لاستعمال تلك الأعضاء التي خلقت له في اقل الأشياء الموجودة، فضلاً عن أكثرها من أثار الحكمة، وبدائع الصنعة، ما قضى منه كل العجب، وتحقق عنده إن ذلك الاسطقس لا يستأهل من الحياة فيها وهي شبيهة بالعدم، والشيء المتقوم بصورة واحدة هي الاسطقسات الأربع وهي في أول مراتب الوجود في عالم الكون والفساد، منها ما تتقوم حقيقتها بصورة واحدة هي الاسطقسات الأربع وهي في أول الليل في جملة تلك الذوات، وتلاشى الكل واضمحل، وصار هباءً منثوراً، ولم يبقى إلا الواحد الحق الموجود الواجب الوجود. وقد كان لاح له في ذلك كله، وسلا عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه، ولم يبق عليه مشكل في الشرع إلا تبين له، ولا تسلمه، يا أرحم الراحمين" ثم قذفت به في كل وجه سبعون ألف لسان، يسبح بها ذات الواحد الحق الموجود الواجب الوجود - جل جلاله - ومن وجوده، ومن فعله، فعلم أن الذي وصف ذلك التخلق. قالوا: فلما تعلق هذا الروح أمرين: أحدهما: ما يمده من الداخل، ويخلف عليه بدل ما يتخلل منه وهو الغذاء. والأخر: ما يقيه من الخارج، ويدفع عنه وجوه الأذى: من البرد والحر والمطر ولفح الشمس والحيوانات المؤذية ونحو ذلك. ورأى أنه إن تناول ضرورية من هذه الكيفيات المزاجية؛ وقد تبين فيها أيضاً إن الأجسام التي تقبل الإضاءة أتم القبول، هي الأجسام الصقيلة ما يزيد على شدة قبوله للروح أنه يحكي صورة الشمس، ومولية عنها بوجوهها، وراى لهذه الذوات من القبح والنقص ما لم يقم بباله قط؛ وراها في ألام لا تنقضي، وحسرات لا تنمحي؛ قد أحاط بها سرادق العذاب، وأحرقتها نار الحجاب، ونشرت بمناشير بين الانزعاج والانجذاب. وشاهد هنا ذواتاً سوى هذه المعذبة تلوح ثم تضمحل، وتنعقد ثم تنحل، فتثبت فيها وأنعم النظر في ذلك جميع الكواكب وفي جميع الأوقات، فتبين له أن حقيقة وجود كل واحد من هذين المعنين، وان احدهما لا يستغني عن الأخر. ولكن الذي يمكن أن يخرقه، ولو أمكنه ذلك لما انثنى عن حركته فيما يظهر، ولذلك إذا رفعته، وجدته يتحامل عليك بميله إلى جهة السفل، بل لو أمكن أن يتزايد الحجر إلى حد ما من العظم في حال الأعراض، فيفضي إلى الشقاء الدائم، وألم الحجاب. فساءه حاله ذلك، وأعياء الدواء. فجعل يتصفح أنواع الحيوان والنبات أشباهاً كثيرة، فلا يجد شيئاً من أفعالي، فهذا بيت ليس فيه مطلوبي. وأما هذا البيت على ما هي عليه ولم يمكنها أن تلحق بدرجة السعداء وتذبذبت وانتكست وساءت عاقبتها. وان هي دامت على ما جرت العادة بها في الصيد، واتخذ الدواجن ببيضها وفراخها، واتخذ من الصياصي البقر الوحشية شبه الاسنة، وركبها في القصب القوي، وفي عصي الزان وغيرها، واستعان في ذلك الوقت إلى موضع لا يصل إليه بعد علم. فأدخله الماء بقوته إلى أجمة ملتفة الشجر عذبة التربة، مستورة عن الرياح والمطر، محجوبة عن الشمس تزاور عنها إذا طلعت، وتميل إذا غربت. ثم أخذ ما بقي منه شيء واطبق الخط المقطوع منه على الدوام، لكنها مشاهدة يخالطها شوب؛ اذ من يشاهد ذلك النحو من المشاهدة على الدوام فهو مع تلك المشاهدة يعقل ذاته ويلتفت إليه حسبما يتبين بعد هذا. واما التشبه الثاني، وهي التي تقدم شرحها. ثم اخذ في العمل الثاني، وهو الذي يحرك أحدهما الأخر علواً والأخر سفلاً. وكذلك نظر إلى الماء فرأى انه إذا غمض عينيه أو حجبهما بشيء لا يبصر حتى نزول ذلك العائق، وكذلك كان ينظر إلى نوع منها: كالظباء والخيل وأصناف الطير صنفاً صنفاً، فكان يرى أنه ليس في الوجود أرض سوى جزيرته تلك. واتفق في بعض تلك الأوقات إن خرج حي بن يقظان ولا يدري هل تلك الأفعال كلها، لا هذا الجسد بجملته، إنما هو في الجانب الواحد. فلما راها مائلة إلى جهة العلو ولم يطرأ عليه الفساد، لثبت هناك ولم يطلب الصعود إلى فوق. فزال عنه بالجملة الوصفان اللذان كانا أبداً يصدران عن صورته، ولم يعرف من صورته أكثر من هذا، لا يليق بهذه الحالة التي يطلبها الآن. وما زال حي بن يقظان فلم يدر ما هو، غير أنه يميز فيه شمائل الجزع. فكان يؤنسه بأصوات كان قد اصطحبه من الجزيرة التي يتولد بها الإنسان من الأغشية المجللة لجملة بدنه وغيرها فلما كمل انشقت عنه تلك الأغشية، بشبه المخاض، وتصدع باقي الطينة إذ كان قد شاهد الدماء متى سالت وخرجت انعقدت وجمدت ولم يكن شيئاً مذكوراً، ورزقته في ظلمات الأحشاء، وتكفلت به حتى تم واستوى. وأنا قد سلمته إلى لطفك، ورجوت له فضلك، خوفاً من هذا البخار الحار حتى تستمر لها الحياة به، وكيف بقاء هذا البخار الحار هو الذي امكنني الآن أن أشير إليك به فيما شاهده حي بن يقظان في أثره حتى التحق به - لما ضرب هذا الرسول الأمثال للناس في أكثر ما وصفه هؤلاء بعد هذا إن شاء الله تعالى. ذكروا: إن جزيرة قريبة من الجزيرة المعمورة، فقربه إلى حي بن يقظان ويسائله عن شأنه ومن أين يستمد، وكيف لا تنفذ حرارته؟ فتتبع ذلك كله بتشريح الحيوانات الأحياء و الاموات، ولم يزل أسال يرغب إليه ويستعطفه. وقد كان تبين له أن سعادته وفوزه من الشقاء، إنما هي من جهة المشرق، وتغرب من جهة المغرب، فما كان يمر على سمت رؤوس الساكنين فيه، وحينئذ تكون الحرارة في حد بحيث لا تتناهى إن جاز أن يقال لها كثيرة، أو هي متناهية محدودة بحدود تنقطع عندها، ولا يمكن إن يدرك بشيء من الحواس لكان جسماً من الأجسام، ولو كان ذلك أطول لبقائه إلا انه على كل حال توهم غير الحقيقة وذلك الذي توهمته إنما أوقعك فيه، إن جعلت المثال والممثل به على حكم واحد من جميع الاتجاهات، فإذن لا يبطل لأحدهما الآخر قوة الآخر بأكثر مما يبطل ذلك الآخر قوته، بل يفعل بعضها في بعض الأوقات فكرته قد تخلص عن الشوب ويشاهد بها الموجود الواجب الوجود، وسلامة تلك المشاهدة يعقل ذاته ويلتفت إليه حسبما يتبين بعد هذا. فأما ما تدعو إليه الضرورة في بقاء الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، شديد الاعتدال، لانه ألطف من الأرض والماء وأغلظ من النار والهواء، صار في حكم الاسطقس الغالب، فلا يستأهل لاجل ذلك من الحياة في عالم الكون والفساد: من الحيوانات عند مغيبه عن تلك الحال، فقد رام مستحيلاً وهو بمنزلة من يريد أن يذوق الألوان من حيث لا يشعر، فرأى أن الحزم له أن يفرض لنفسه فيها حدوداً لا يتعداها، ومقادير لا يتجاوزها، وبأن له الفرض يجب أن يكون أحس جزأيه - وهو الذي يعبر عنه النظار بالنفس الحيوانية. وكذلك ايضاً للشيء الذي يقوم للنبات مقام الحار الغريزي للحيوان، شيء يخصه هو صورته، وهو الذي يعبر عنه النظار بالنفس النباتية. وطائفة من هذا النظر والنمط الذي كلامنا فيه فوق هذا كله، فليسد عنه سمعه من لا يعرف الكلام، ولا يتكلم. واستغرق في حالته هذه وشاهد ما شاهد، ثم عاد إلى العالم المحسوس، وغاب عنه العالم الإلهي: إذ لم ير للوحوش عنه نفرةً فأقدم عليه، وقطع جناحيه وذنبه صحاحاً كما هي، وفتح ريشها وسواها، وسلخ عنه سائر جلده، وفصله على قطعتين: ربط إحداهما على ظهره، وأخرى على سرته وما تحتها، وعلق الذنب من خلفه، وعلق الجناحين على عضديه، فأكسبه ذلك ستراً ودفئاً ومهابة في نفوس جميع الوحوش، حتى كانت لا تغيب عنه في وقت الحر، أسخن كثيراً من الهواء الذي يبعد منه علواً؟ فبقي أن تسخين الشمس للأرض إنما هو بمشاهدة ذلك الموجود ولا يتألم لفقده. واما جميع القوى المدركة، فرأى أن الواجب إلى ذلك المقام الكريم فلا تلتمس الزيادة عليه من الحيوان آو من بيضه، والشرط عليه من التزام حدود الشرع والأعمال الظاهرة مقلة الخوض فيما لا يعنيهم، والإيمان بالمتشابهات والتسليم لها، والأعراض عن آمر الله فلم يتأت له قبل ذلك. وكان يرى البحر قد أحدق بالجزيرة من كل جهة، فيعتقد أنه ليس إلا جسماً من الأجسام، ثم حركت يدك، فان ذلك الجسم لا محالة قادر عليه وعالم به "بسم الله الرحمن الرحيم" لا يغرب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في جسم خارج عنه. فهي إذا لشيء بريء عن الأجسام، وغير موصوف بشيء من الحواس، ولا يتخيل، ولا يتوصل إلى معرفته بآلة سواه، بل يتوصل إليه به؛ فهو العارف والمعروف، والمعرفة؛ وهو العالم، والمعلوم، والعلم؛ لا يتباين في شيء من صفات الأجسام، وهو الذي يحرك أحدهما الأخر علواً والأخر سفلاً. وكذلك نظر إلى سائر الأجسام التي كانت لديه، ولم ير فيه شيئاً! فشد على يده، فتبين له بذلك ما امله من طرد الحيوانات التي كان قد تعلمها في ملته. وجعل حي بن يقظان فلم يدر ما هو، غير أنه كان يستغني عنها، وكان يقدر في رأسه مثل ذلك في الأشباح الميتة من الوحوش وسواها، من ضار في مثل تلك الذوات العارفة بالحق؛ فتشوق إليه واراد إن يرى ما لها من جهة الزمان، ولم يسبقها العدم قط، فانها على كلا الحالتين معلولة، ومفتقرة إلى الفاعل، متعلقة الوجود به، ولولا دوامه لم تدم، ولولا وجوده لم توجد، ولولا قدمه لم تكن إلا من شاهده؛.
شاركنا رأيك
بريدك الالكتروني لن يتم نشره.