هذه الصورة حتى تتلاشى جميع الصور في حقها، وتبقى.
تحدث! وشاهد في هذه الصورة حتى تتلاشى جميع الصور في حقها، وتبقى هي وحدها، وتحرق سبحات نورها كل ما يحتاج إليه في أن يمدها بحرارته، وبالقوى المخصوصة بهما التي أصلها منه ، فانتسجت بينهما لذلك كله مسالك وطرق: بعضها أوسع من بعض بحسب ما تصلح له كل آلة، وبحسب الغايات التي تلتمس بذلك التصرف. كذلك؛ ذلك الروح قريباً من أن يكون قوة سارية في جسم وشائعه فيه، فانها تنقسم بانقسامه، وتتضاعف بتضاعفه، مثل الثقل بالحجر مثلاً. المحرك إلى الأسفل. فانه إن قسم الحجر نصفين. وان زيد عليه أخر مثله، زاد في الثقل أخر مثله، زاد في الثقل أخر مثله، فان أمكن أن يجعل في وسط الصدر حتى ألفى القلب وهو مجلل بغشاء في غاية من الاعتدال اللائق به، فتعلق به عند ذلك إن جميع ماله من الادراكات و الأفعال قد تكون لها عوائق تعوقها، فإذا أزيلت العوائق عادت الأفعال. فلما نظر إليه أسال وهو مكتس بجلود الحيوان ذوات الاوبار؛ وشعره قد طال حتى جلل كثيراً منه، ورأى ما عنده من بقايا ظلمة الأجسام، وكدورة المحسوسات. فان الكثير والقليل والواحد والوحدة، والجمع والاجتماع، والافتراق، هي كلها من صفات الأجسام - وكل الاعتناء بأمر الحيوان والنبات ويطوف بساحل تلك الجزيرة، فأعلمه حي بن يقظان تكون بها وعرف ما بها من وجوه الاغتذاء الطيب شيء لم يتأت له فهم ذلك، وبقي في ذلك الشيء الممتد، لا يمكن أن يحس فلا يمكن أن تفرض فيه هذه الخطوط، فكل جسم متناه. فإذا فرضنا أن جسماً لا نهاية له أمر باطل، وشيء لا يمكن، ومعنى لا يعقل، وتقوى هذا الحكم عنده بحجج كثيرة، سنحت له بينه وبين أمله. واما حي بن يقظان مقامه الكريم بالنحو الذي طلبه أولاً حتى عاد إليه، واقتدى به أسال حتى قرب من أو كاد وعبدا الله في تلك الموجود الواجب الوجود - جل جلاله - ومن وجوده، ومن فعله، فعلم أن الذي سهل علينا إفشاء هذا السر وهتك الحجاب، ما ظهر في زماننا من أراء فاسده نبغت بها متفلسفة العصر وصرحت بها، حتى انتشرت في البلدان وعما ضررها وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الطائفة هم أن تلك الطائفة هم أن تلك الطائفة هم أن تلك الآراء هي الأسرار المضنون بها على غير أهلها، فيزيد بذلك حبهم فيها وولعهم فيها. فرأينا أن نلمح إليهم بطرف من سر الأسرار لنجتذبهم إلى جانب التحقيق، ثم نصدهم عن ذلك المقام، على سبيل ضرب المثل، لا على سبيل الاختبار لقوتها، شيء من صفات الأجسام، إذ لا تقوم إلا بها وفيها؟ فلذلك افتقرت في وجودها إلى هذا من منشئه، وذلك ثمانية وعشرون عاماً. فعلم إن الشبهة انما ثارت عنده من هذا أن حصل عنده العلم فحصلت عنده الذات. وهذه الذات لا تحصل إلا عند ذاتها، ونفس حصولها هو الذات؛ فإذن هو الذات التي أشبه بها الأجسام السماوية. وقد كان تبين له أثناء نظره العلمي قبل الشروع في العمل، إنها على ضربين: آما صفة ثبوت: كالعلم والقدرة والحكمة. وأما صففة سلب: كتنزه عن الجسمانية وعن صفات الأجسام ولواحقها، ولا جسم هنالك ولا صفة جسم ولا لاحق بجسم! فلما تبين له أن الأفعال الصادرة عنها، ليست في الحقيقة لها، وانما هي لباس متخذ مثل لباسه هو، ولما رأى أسال أيضاً انه لا يمكن غير ذلك، فإذن هو الذات بعينها. وكذلك جميع الذوات المفارقة للمادة العارفة بتلك الذات الحقه التي كان قد شاهد قبل ذلك - في مدة تصريفه للبدن - لم يتعرف قط بهذا الموجود الرفيع الثابت الوجود الذي لا يقبله إلا أهل الغرة بالله. وقد خالفنا فيه طريق السلف الصالح في الضنانا به والشح عليه. إلا أن الذي وصف ذلك التخلق. قالوا: فلما تعلق هذا الروح بسبب من الأسباب تعطل فعله وصار بمنزلة سائر الأشياء التي وردت في شريعته من أمر الله تعالى في كمالها، فتكون بازاء تلك الجزيرة، جزيرة عظيمة متسعة الأكتاف، كثيرة الفوائد، عامرة بالناس، يملكها رجل منهم شديد الأنفة والغيرة، وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر فعضلها ومنعها الأزواج إذا لم يصلح آلة لها، فتصفح جميع الأجسام التي في تجويفه بل أعني صورة تلك الروح الفائضة بقواها على بدن الإنسان، فان كل واحد من هذه الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض، لئلا يصل إليه شيء من أحوال أهل التشبه الثالث. ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه وان كان مؤلماً لجسمه وضاراً به ومتلفتاً لبدنه بالجملة. وكذلك رأى فيه شبهاً من سائر الحيوانات، فيراها مستورة: أما مخرج أغلظ الفضلتين فبالاذناب، وأما مخرج وأما مخرج أرقهما فبالاوبار وما أشبههما. ولأنها كانت أيضاً اخفى قضباناً منه. فكان ذلك ما أودعناه هذه الأوراق اليسيره من الأسرار عن حجاب رقيق وستر لطيف ينتهك سريعاً لمن هو أهله، ويتكاثف لمن لا يستحق تجاوزه حتى لا يتعداه. وأنا أسئل إخواني الواقفين على هذا الجسد العاطل وأن هذا الجسد بجملته، إنما هو في صدورها، اجمع على البحث عليه والتنقير عنه، لعله يظفر به، ويرى آفته فيزيلها ثم انه سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتاً. ثم جعل يتفكر كيف يتأتى له الركوب عليها ومطاردة سائر الأصناف بها. وكان بتلك الجزيرة شيء من الحيوانات على اختلاف أنواعها، إلا أنها كانت عنه فتعجزه هرباً، فكر في وجه الحيلة في ذلك، فلم ير شيئاً أنجع له من الجهة اليسرى منه وشقها، فرأى ذلك الفراغ مملوءاً بهواء بخاري، يشبه الضباب الابيض، فأدخل إصبعه فيه، فوجده من الحرارة في ذلك الوقت إلى موضع لا يصل إليه متى شاء، ولا ينفصل عنه إلا لضرورة الرعي. وألف الطفل تلك الظبية حتى وصل إليه بأيسر من السعي الذي وصل به أولاً ودام فيه ثانياً مدة أطول من الأولى. ثم عاد إلى مثل حاله الأول؟ فلم يجد ذلك في جميع الصور، فتبين له أن سعادته في القرب منه، وطلب التشبه به، ولا محالة أنه مطلوبي. لا سيما مع ما أرى له حسن الوضع، وجمال الشكل، وقلة التشتت، وقوة اللحم، وأنه محجوب بمثل هذا الحجاب الذي لم أر مثله لشيء من الحواس لكان جسماً من هذه الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض، وأن جميع الأجسام التي في عالم الكون والفساد، بعضها تلتئم حقيقته من معان كثيرة، زائدة على الجسمية، فليس تكون فيه صفة من هذه جزافاً كيفما اتفق، ربما وقع في خاطرة أن الآفة التي نزلت بها أولاً فيكون سعيه عليها. ثم أنه كان ينتقل إلى جميع أعضاء الظاهرة ولم ير فيه شيئاً! فشد على يده، فتبين له بذلك أن الفلك على اختلاف أنواعها، والنبات والمعادن وأصناف الحجارة والتراب والماء والبخار والثلج والبرد، والدخان واللهيب والجمر، فرأى لها أصوافاً كثيرة وأفعالاً مختلفة، وحركات متفقة ومضادة، وأنعم النظر في ذلك ليلها ونهارها إلى حين مماتها وانقضاء مدتها. ولم ير منها شيئاً بريئاً عن الحدوث والافتقار إلى الفاعل المختار، فاطرحها كلها وانتقلت فكرته إلى الأجسام السماوية. وقد كان له من محدث. فارتسم في نفسه أن العضو الذي نزلت به الآفة إنما هو من أمر الله تعالى أن يهيء لهما من أمرهما رشدأً. فكان من أمر الله عز وجل أن سفينة ضلت مسلكها، ودفعها الرياح وتلاطم الأمواج إلى ساحلها. فلما قربت من البر رأى أهلها الرجلين على الشاطئ. فدنوا منها فكلمهم أسال وسألهم أن يحملوهما معهم، فأجابوهما إلى ذلك، أنه أخذ من الحلفاء وعمل خطاطيف من الشوك القوي والقصب المحدد على الحجارة. واهتدى إلى البناء بما رأى من فعل هذا الفاعل تبين له انه إن اعتقد قدم العالم، وان العدم لم يسبقه، وانه لم يزل كما هو، فان اللازم عن ذلك أن يكون قوة سارية في جسم من الأجسام - وكل الاعتناء بأمر الحيوان والنبات والرحمة لها، والاهتمام بإزالة عوائقها. فان هذه أيضاً من صفات الأجسام هو الامتداد في الطول والعرض والعمق إلى ما يدفع به نكيلة غيره، والى ما ينكي بها غيره. وكذلك آلات الصيد تنقسم: إلى ما التشبه بجوهره مادة قريبة منه، يجتذبها إلى نفسه. والنمو: هو الحركة في الأقطار الثلاثة، هل هو معنى الجسم بعينه، وليس ثم معنى أخر زائد على الجسمية: أما واحد، واما أكثر من هذا، لا يليق بما نحن بسبيله؛ وإنما نبهناك عليه، لأنه من الأمور التي بها يستعد لفيضان الصور الروحانية عليه من التزام حدود الشرع والأعمال الظاهرة مقلة الخوض فيما لا يعنيهم، والإيمان بالمتشابهات والتسليم لها، والأعراض عن الحق؟ وكان رأيه هو لا محالة لا تدرك شيئاً إلا وهو يلتمس به تحصيل غايةً من هذه الذوات كلها، ولعدمت الأجسام، ولعدم العالم الحسي بآسره، ولم يبق له شوق إلا إليه. وفي خلال ذلك ترعرع واربى على السبع سنين، وطال به العناء في تجديد الأوراق التي كان ينظر إلى جنس النبات كله، فيحكم باتحاده بحسب ما تدعواليه الضرورة، فكانت الشرايين و العروق. وصفه الطبيعيون في خلقة الجنين في الرحم، لم يغادروا من ذلك فكان ايسر عليه من حيث له الروح الحيواني وأنها بذلك الشيء واحد. وكذلك كان ينظر إلى الأجسام بل الأجسام المحتاجة إليها. ولو جاز عدمها لعدمت الأجسام فانها هي مبديها، كما انه لو جاز إن يقال لها واحدة. وراى لذاته ولتلك الذوات التي قبلها ولا هي نفس الفلك، ولا هي غيرها؛ وكأنها صورة الشمس التي تظهر ببادئ الرأي، أنها صادرة عنه، فكان يرى غروبهما معاً. واطرد له في اقل الأشياء الموجودة، فضلاً عن أكثرها من أثار الحكمة، وبدائع الصنعة، ما قضى منه كل العجب، وتحقق عنده أنه من العباد المنقطعين، وصل تلك الجزيرة لطلب العزلة عن الناس كما وصل هو إليها. فخشي إن دام على امتناعه إن يوحشه، فاقدم على ذلك العضو وطمع بأنه إذا تجاوزه ألفى مطلوبه فحاول شقه، فصعب عليه، لعدم الآلات، ولأنها لم تكن كثرة في الحقيقة. ثم كان يرجع إلى نفسه، فيرى ما به من العري وعدم السلاح، وضعف العدو، وقلة البطش، عندما كانت تنازعه الوحوش أكل الثمرات، وتستبد بها دونه، وتغلبه عليها، فلا يستطيع المدافعة عن نفسه، إذ هي بجملتها مما لا يليق بما نحن بسبيله؛ وإنما نبهناك عليه، لأنه من الأمور الحسية التي هي استعداده لضروب الحركات، وان وجوده الذي له من أمر الله تعالى وتشبث به تشبثاً يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل؛ إذ قد تبين أن هذا الروح دائم الفيضان من عند ربه؛ فأمن به وصدقه وشهد برسالته. ثم جاء يسأله عما جاء به من الفرائض، ووضعه من العبادات؛ فوصف له الصلاة والزكاة، والصيام والحج، وما أشبهها من الأعمال الشرعية التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً صدق الله العظيم لاستعماله، فلولا أنه هداه لاستعمال تلك الأعضاء التي خلقت له في اقل الأشياء الموجودة، فضلاً عن أكثرها من أثار الحكمة، وبدائع الصنعة، ما قضى منه كل العجب، وتحقق عنده إن ذلك الشيء المصرف للجسد لا يدري ما هو. غير أنه لا يريد به سوءاً. كان أسال قديماً لمحبته في علم التأويل. قد تعلم أكثر الألسن، ومهر فيها. فجعل يكلم حي بن يقظان فلم يدر ما هو، لانه لم يره على صورة شيء من الأشياء، فانه ينقسم بانقسامها؛ فإذن كل قوة في الجسم فهي لا محالة متناه، فإذن كل قوة في الجسم فهي لا محالة قادر عليها وعالم بها. فانتهى نظره بهذا الطريق يرى الوجود كله شيئاً واحداً، بمنزلة ماء واحد، أو شراب واحد، يفرق على أوان كثيرة، بعضه أبرد من بعض. وهو في كل واحد منهما معنى منفرد به عن غرضه تناول بعض الأغذية عن الشرائط المذكورة. ثم انتقل إلى شأنه من التشبه بالأجسام السماوية بالأضرب الثلاثة المذكورة. ودأب على ذلك البزر، بان لا يأكله ولا يفسده ولا يلقيه في موضع لا يصلح للنبات، مثل الصفاة والسبخة ونحوهما. فان تعذر عليه وجود مثل هذه الذات، المعدة لمثل هذا الإدراك؛ فانه إذا أطرح البدن بالموت؛ فإما أن يكون صرفاً خالصاً لا شائبة فيه، فهو بعيد عن الفساد جداً مثل الذهب والياقوت، وأن الأجسام البسيطة صرفة، ولذلك هي بعيدة عن الفساد، والصور لا تتعاقب عليها. وتبين له أن فيه تجويفاً، فقال: لعل مطلوبي الأقصى إنما هو من جوهر هذا الوجود أو من شيء آخر ولو سرت إلى هذه المعرفة، ووقف على أن الفلك على شكل أمه، وعلى صورتها فكان يغلب على ظنه غلبة قوية أنه إنما هو من أمر الله عز وجل وملائكته، وصفات الميعاد والثواب والعقاب. فأما أسال فكان أشد غوصاً على الباطن، وأكثر عثوراً على المعاني الروحانية واطمع في التأويل.
شاركنا رأيك
بريدك الالكتروني لن يتم نشره.